ترك برس
تشهد تركيا تراجعا مقلقا في نصيب الفرد من الموارد المائية المتجددة، الذي هبط من نحو 1650 مترا مكعبا مطلع الألفية إلى أقل من 1300 متر مكعب حاليا، مقتربا من العتبة الحرجة التي حددتها الأمم المتحدة عند ألف متر مكعب سنويا، وسط تحذيرات من خطر تصنيف البلاد كدولة فقيرة بالمياه بحلول 2030 إذا استمرت الاتجاهات الحالية.
ومع حدة التغيرات المناخية، تجد تركيا نفسها على شفا أزمة تهدد أمنها المائي في العمق. فبحسب خبراء أتراك ودوليين، تقترب البلاد من الوصول إلى "العتبة الحرجة للفقر المائي"، مع احتمالات لتصنيفها رسميا كدولة فقيرة بالمياه بحلول عام 2030، إذا استمر الحال على ما هو عليه.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن نصيب الفرد من المياه المتجددة في تركيا انخفض من نحو 1650 مترا مكعبا مطلع الألفية إلى ما دون 1300 متر مكعب حاليا، مقتربا من الخط الأحمر الذي حددته الأمم المتحدة عند ألف متر مكعب سنويا، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت".
ولا يعكس هذا التراجع، الذي يقدر بنسبة 19% خلال عقدين فقط، أزمة موارد فحسب، بل يكشف عن نمط استهلاك غير مستدام، ونظام إدارة مائية يواجه تحديا هيكليا بالغ الخطورة، حسب الخبراء.
وبينما تتصاعد مؤشرات الإجهاد المائي، يحذر الخبراء من أن هامش الإصلاح يضيق بسرعة، وأن السنوات القليلة المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت تركيا قادرة على تجنب "الانهيار المائي" المرتقب.
أزمة ملموسة
لم تعد أزمة شح المياه في تركيا حبيسة التقارير العلمية، بل باتت ملموسة في الحياة اليومية في عدة مدن. ففي بلدة تشيشمه الساحلية بولاية إزمير، يواجه السكان انقطاعات تصل إلى 12 ساعة يوميا.
كما شمل التقنين مدينة إزمير نفسها ابتداء من 6 أغسطس/آب الماضي، بعد تراجع منسوب سد تاهتالي وتوقف الإمدادات من سد غوردس، وانخفاض أحد خزانات تشيشمه إلى أقل من 5% من سعته.
وفي أنقرة، هبطت مخزونات المياه في السدود إلى 18% مطلع 2023، وسط تحذيرات من نفاد الإمدادات خلال أربعة إلى 5 أشهر ما لم تهطل الأمطار. ويعزى ذلك إلى جفاف حاد وارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة.
ويعزى هذا التدهور إلى عام من الجفاف الحاد، تميز بندرة التساقطات، وارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة. وجفاف بحيرات ومسطحات مائية، فقد شهدت البلاد أكثر شهور ديسمبر/كانون الأول حرارة منذ أكثر من نصف قرن، مع عجز مطري تجاوز 50% عن المعدلات الموسمية، وفق بيانات هيئة الأرصاد الجوية التركية.
تباطؤ السياسات الرسمية
رغم تزايد التحذيرات من خبراء المناخ والبيئة بشأن خطر الفقر المائي المحدق بتركيا، فإن الاستجابة الرسمية لا تزال، في نظر كثير من المختصين، دون مستوى التحدي. ويشير هؤلاء إلى وجود فجوة متنامية بين جدية التهديدات التي ترصدها الأبحاث العلمية، وبين طبيعة الإجراءات التي تتخذها السلطات على الأرض.
وفي هذا السياق، حذر مصطفى شاشماز، أستاذ المناخ في جامعة البحر الأسود، من أن التبخر الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة أصبح اليوم أحد أبرز أسباب فقدان الموارد المائية في تركيا، مشيرا إلى أن تخزين المياه في سدود سطحية واسعة، دون مراعاة المعايير المناخية، يجعلها أكثر عرضة للتبخر في ظل تزايد موجات الحر.
وأوضح شاشماز في حديث للجزيرة نت، أن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب حلولا تقنية عاجلة، من بينها إعادة تصميم الخزانات لتكون أكثر عمقا وأقل عرضة لأشعة الشمس، وتغطية الأحواض المكشوفة في المناطق الحساسة، إلى جانب حظر استخدام المياه العذبة في أحواض السباحة الخاصة بالمنتجعات الساحلية، واستبدالها بالمياه المالحة المعالجة.
كما لفت إلى أن مؤسسات الدولة تشكل بدورها جزءا من المشكلة، إذ تستهلك المرافق العامة كميات كبيرة من المياه من دون تطبيق فعال لأنظمة الترشيد أو اعتماد تقنيات توفير حديثة، داعيا إلى إصلاح شامل لهذه البنى وتطويرها بما يتلاءم مع التحديات المناخية المتسارعة.
التصحر وتغير المناخ
في تقاطع خطير بين الظواهر المناخية العالمية والقصور في الإدارة المحلية، تواجه تركيا أحد أعقد التحديات البيئية في تاريخها الحديث، يتمثل في اتساع رقعة التصحر وتفاقم موجات الجفاف.
ويضع تقرير "بؤر الجفاف حول العالم 2023-2025″، الصادر عن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، تركيا ضمن النطاقات الحرجة الواقعة في حزام الجفاف الممتد من جنوب أوروبا حتى الشرق الأوسط.
وحذر التقرير من أن استمرار الاتجاهات الحالية قد يدفع البلاد إلى حالة ندرة مائية حادة بحلول عام 2030، مع إمكانية تعرض ما يقرب من 80% من الأراضي الزراعية لموجات جفاف متكررة وشديدة خلال العقد المقبل.
وتزايدت مظاهر الإجهاد البيئي في تركيا خلال السنوات الأخيرة، مع تكرار موجات الحر الشديد وحرائق الغابات، وأبرزها حرائق صيف العام الجاري والتي بلغت نحو 3 آلاف حريق حسب تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان.
وتتجاوز أزمة المياه في تركيا حدودها الداخلية لتؤثر على الأمن المائي الإقليمي، خاصة في سوريا والعراق، حيث تتحكم أنقرة في نحو 90% من مياه الفرات وجزء كبير من مياه دجلة.
ومنذ عقود، أنشأت تركيا عشرات السدود ضمن مشروع تطوير جنوب شرق الأناضول لتأمين الري والطاقة، مما أثار خلافات مع بغداد ودمشق اللتين تتهمانها بعدم الالتزام ببروتوكول 1987 القاضي بتمرير 500 متر مكعب/ثانية من مياه الفرات، وهي حصة تقولان إنها تتراجع خاصة في مواسم الجفاف.
جهود حكومية
في سياق معالجتها للأزمة، ضاعفت أنقرة خلال الأعوام الأخيرة من استثماراتها في البنية التحتية المائية، إذ شهد شهر ديسمبر/كانون الأول 2023 افتتاح 369 منشأة جديدة في أنحاء متفرقة من البلاد، شملت 20 سدا، ومحطات معالجة، وشبكات ري، ومرافق لتخزين المياه، بتمويل تجاوز 53 مليار ليرة تركية (نحو مليار و330 مليون دولار).
وفي كلمة له خلال افتتاح المشاريع، شدد الرئيس رجب طيب أردوغان على أن تركيا "ليست بلدا غنيا بالمياه كما يُظن"، موضحا أن المعدل السنوي للهطول المطري لا يتجاوز 574 مليمترا، وهو ما يقل كثيرا عن المعدل العالمي.
وفي هذا السياق، أعلنت الحكومة عن برنامج لترميم البحيرات المتقلصة أو الجافة، ومن أبرزها بحيرة مرمرة غربي البلاد، إلى جانب الاستثمار في محطات إعادة تدوير مياه الصرف لاستخدامها في الري والزراعة والصناعة.
ويشمل هذا التوجه أيضا بناء محطات تحلية جديدة في مناطق تعاني من ندرة مزمنة في الموارد العذبة، لاسيما في غرب الأناضول وسواحل البحر المتوسط.
ويرى الخبير في شؤون المياه بلال يلدريم أن الإجراءات التي تتخذها تركيا حاليا -مثل بناء السدود الجديدة وتحديث أنظمة الري- تمثل خطوات مهمة، لكنها غير كافية ما لم تُدعم بسياسات صارمة لإدارة الطلب، وتقليل الهدر، وتوسيع إعادة استخدام المياه.
ويشير الخبير إلى أن الزراعة تستهلك ما بين 70 و75% من إجمالي السحب المائي، فيما تهدر المدن ما بين 20 و35% عبر فواقد الشبكات، بينما تتأثر كفاءة السدود بعوامل التبخر وتراكم الرواسب.
ويضيف يلدريم أن الأولويات العاجلة تشمل خفض الفواقد الحضرية إلى أقل من 15%، وتعميم أنظمة الري عالية الكفاءة لتوفير ما يصل إلى 30% من استهلاك الزراعة، وتقليل التبخر عبر تحسين تصميم الخزانات والتوسع في التخزين الجوفي، ورفع إعادة استخدام المياه المعالجة إلى 20% من الطلب الحضري، فضلا عن تعديل التعرفة المائية، والتحول نحو محاصيل أقل استهلاكا للمياه، ووضع خطط إلزامية لإدارة الجفاف.