منذ الإطاحة بنظام الشاه في فبراير 1979 بقيادة المرشد الأعلى روح الله الخميني، خاضت الجمهورية الإسلامية الإيرانية سلسلة من المواجهات والتحديات، امتدت من ساحات القتال إلى طاولات العقوبات، لكنها ظلت صامدة في وجه ما تعتبره “حربًا مركبة” شنتها القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
وبدأ التوتر الإيراني الأمريكي منذ “عملية أجاكس” التي نفذتها المخابرات الأمريكية والبريطانية عام 1953 للإطاحة برئيس الوزراء محمد مصدق وإعادة الشاه إلى الحكم.. وفي عام 1979، ومع الثورة واحتجاز الجواسيس الأمريكيين، دخلت العلاقات بين البلدين في قطيعة تامة.
ومنذ الثورة عام 1979 حتى التوتر النووي والعدوان الصهيوني في 2025، تحولت إيران من دولة حليفة للغرب وكيان الاحتلال الإسرائيلي إلى رأس حربة لمحور مناهض للهيمنة الأمريكية و”الإسرائيلية” في المنطقة.. ورغم العقوبات المتصاعدة والتوترات المتكررة، تقف إيران بعد أكثر من أربعة عقود على تأسيس الجمهورية الإسلامية، كدولة لم تُسقطها الحروب، ولم تُنهكها العقوبات، ولا الانقلابات.
التحول الجذري في العلاقات مع الكيان الإسرائيلي
قبل عام 1979، كانت العلاقات الإيرانية “الإسرائيلية” في أوجها، فإيران الشاه محمد رضا بهلوي كانت ثاني دولة مسلمة تعترف بـ”إسرائيل” رسميًا عام 1949.
وشهدت السبعينيات تعاونًا دبلوماسيًا وعسكريًا واسعًا، منها مشروع “فلاور” المشترك لتطوير صواريخ متقدمة.
كما سُيّرت رحلات جوية مباشرة بين “تل أبيب” وطهران، وتعاونت شركات “إسرائيلية” في مشاريع بناء إيرانية.
لكن بقيام الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، قُطعت العلاقات، وارتُفعت شعارات العداء للاحتلال الإسرائيلي باعتبارها “الكيان الغاصب”.
ومنذ ذلك الوقت، تصاعدت التوترات إلى ما أصبح يُعرف بـ”حرب الظل” التي امتدت من عمليات اغتيال لعلماء إيرانيين إلى استهداف منشآت نووية، مقابل دعم إيراني لحركات المقاومة تحت مسمى محور القدس في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن والعراق.
اليوم، يبدو أن رئيس حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” يراهن مجددًا على إسقاط النظام الإيراني عبر التصعيد العسكري، لكن تجارب العقود الماضية أثبتت صلابة البنية الإيرانية العسكرية والأمنية والاقتصادية، رغم الأزمات والاعتداءات المتعددة.
حرب الثمانينيات.. اختبار الدم والنار
ما إن رسخت الثورة الإسلامية أقدامها بقيادة الإمام الخميني، حتى وجدت إيران نفسها عام 1980 في أتون حرب دامية فرضها نظام صدام حسين بدعم أمريكي غربي وخليجي.. دامت الحرب ثماني سنوات وأسفرت عن مئات الآلاف من القتلى ومليارات الدولارات من الخسائر، لكنها شكلت أول اختبار حقيقي لصلابة النظام الجديد.
ورغم محاولات العزل الإقليمي والدولي، حافظت طهران على جبهتها الداخلية، وبدأت بوضع أسس صناعة عسكرية وطنية كانت نواتها الأولى في الحرب.
الحصار الاقتصادي
منذ اقتحام السفارة الأمريكية في طهران عام 1979 واحتجاز الجواسيس بداخلها، وهزيمة القوات الأمريكية في عملية صحراء طيس في 25 أبريل 1980، والحرب الإيرانية العراقية، فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية شديدة على إيران، بدأت بتجميد الأصول ثم توسعت لتشمل حظر النفط والقطاع المصرفي والتعاملات الدولية وشركات الملاحة، وحتى الأدوية.
وفي عام 2018 انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فترة رئاسته الأولى من الاتفاق النووي وأعاد فرض عقوبات “قصوى”، خنقت الاقتصاد الإيراني، وأسقطت الريال إلى مستويات قياسية، وانكمش الاستثمار الأجنبي.
ورغم ذلك، لم تنهار طهران، بل طوّرت ما تسميه بـ”الاقتصاد المقاوم”، وعززت الاعتماد على الإنتاج المحلي، وفتحت قنوات تبادل بديلة مع روسيا والصين ودول آسيوية أخرى.
من الدفاع إلى النفوذ
في العقود الأخيرة، تحوّلت إيران من دولة محاصرة إلى لاعب إقليمي مؤثر.. تبنّت إيران منذ التسعينيات سياسة “الردع خارج الحدود”، عبر بناء شبكة تحالفات واسعة مع حركات المقاومة في لبنان والعراق وسوريا وفلسطين واليمن.. وهو ما مكّنها من بناء شبكة تأثير إقليمية تُمثل تهديدًا مباشرًا للاحتلال الإسرائيلي، وتخلق أوراق ضغط في أي مفاوضات مستقبلية.
ورغم محاولات واشنطن والاحتلال الإسرائيلي ضرب هذا المحور، عبر اغتيالات القادة وهجمات واستهداف تمويله، ما زالت طهران تحتفظ بنفوذ نوعي على امتداد المنطقة، أثبت حضوره في العدوان على غزة، والتصعيد مع حزب الله، والهجمات البحرية في البحر الأحمر.
التكنولوجيا والسلاح.. اكتفاء ذاتي رغم الحصار
نجحت إيران في تطوير صناعات عسكرية متقدمة، من بينها الطائرات المسيّرة، والصواريخ الباليستية، وحتى قدرات فضائية.. وقد شكل ذلك رادعًا عسكريًا، ساهم في قلب موازين القوى في المنطقة.
وبحسب محللين غربيين، فإن العقوبات دفعت إيران إلى تسريع بناء قدراتها الذاتية، حتى باتت “واحدة من أكبر القوى غير النووية في مجال المسيّرات” وفق تعبير مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية.
البرنامج النووي.. محور التصعيد
شكّل البرنامج النووي الإيراني جوهر النزاع بين طهران والقوى الاستعمارية، وخصوصًا واشنطن وكيان الاحتلال الإسرائيلي.. ففي الوقت الذي تصر فيه إيران على سلمية برنامجها، يرى كيان الاحتلال أنه يشكل تهديدًا وجوديًا له.
وقد تعرضت منشآت نووية في نطنز وفوردو لهجمات سيبرانية وتفجيرات، كما اغتيل علماء بارزون على غرار محسن فخري زاده.. وتُشير تقارير غربية إلى دور جهاز الاستخبارات الإسرائيلية “الموساد” في تنفيذ هذه العمليات.
ورغم هذه الضغوط، نجحت إيران في الحفاظ على الحد الأدنى من قدراتها النووية، بل وتوسيعها جزئيًا كردّ على انسحاب أمريكا من الاتفاق.
وفي عام 2002، وضع الرئيس جورج بوش الابن إيران ضمن “محور الشر”، وهو ما زاد في تعقيد الملف النووي.
إلا أن احتواء التوتر، جاء في 2015، حين وقّعت إدارة الرئيس باراك أوباما مع طهران “الاتفاق النووي”، قبل أن ينسحب ترامب منه عام 2018، ويعيد فرض العقوبات.
وفي عام 2025، ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، استؤنفت المحادثات غير المباشرة في مسقط بين الجانبين.. وصفها ترامب بأنها “تسير على نحو جيد”، إلا أن العدوان الإسرائيلي على إيران منذ الجمعة الماضية أوقف تلك المفاوضات، لتبدأ حقبة مواجهة عسكرية مفتوحة بين إيران والاحتلال الإسرائيلي.
إيران تحت النار.. لكن لم تنكسر
منذ 45 عامًا، لم تمر إيران بفترة خالية من الأزمات أو المواجهات، لكنها رغم ذلك، لم تُهزم.. فالدولة التي تعرضت لحرب دامية، وانقلابات سرية، وعقوبات دولية، وهجمات سيبرانية، واغتيالات نووية، ومقاطعة مالية، ما تزال تقف بثبات.
وإذا كان الغرب يرى أن الضغوط يمكن أن تُسقط النظام، فإن التجربة التاريخية تشير إلى أن إيران طوّرت أدوات بقاء معقدة، من الردع العسكري إلى الاقتصاد الداخلي، وإدارة ورقة الملف النووي بحنكة تفاوضية في مواجهة الغرب، ومن التحالفات السياسية إلى الخطاب الديني الثوري.
لقد أثبتت إيران قدرة نادرة على الصمود والتكيف، ما جعلها نموذجًا فريدًا لدولة تُعاقَب دون أن تسقط، وتُعزل دون أن تنع%